ما أشقى المرأة الغيورة وما أتعس حياتها، قالت إحدى الخبيرات: "كانت لي صديقة كثيرة الشكوك، شديدة الغيرة، فإذا خرج زوجها، أو ضرب موعدا، أو تكلم في الهاتف، أو حرر رسالة، أو طرق مفكرا، أو بدا منشرحا، أو أرسل ابتسامة، أيقنت أن هناك امرأة!!
قالe :"إن الله يغار، والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله."واشرف الناس وأعلاهم همة، أشدهم غيرة فالمؤمن الذي يغار في محل الغيرة، قد وافق ربه في صفة من صفاته، ومن وافقه في صفة منها كانت تلك الصفة بزمامه وادخلته عليه وقربته من رحمته. فأين هذا التوجيه من كثير من الرجال اليوم الذين حرموا الغيرة، فنراهم يعرضون نساءهم وبناتهم وأخواتهم في الشوارع والطرقات متبرجات مزينات ليتعرض لهن لصوص الأعراض وينهشوهن!
ومن غرائب غيرة النساء ما حكاه المبرد عن إسحاق بن الفضل الهاشمي قال: كانت لي جارية وكنت شديد الوجد بها، وكنت أهاب ابنة عمي فيها. فبينما أنا ذات ليلة على السرير إذ عرض لي ذكرها، فنزلت من على السرير أريدها، إذ لدغتني في طريقي عقرب، فرجعت إلى السرير مسرعا وأنا أتأوه. فانتبهت ابنة عمي وسألتني عن حالي، فعرفتها أن عقربا لدغني.
فقالت : أعلى السرير لدغتك العقرب ؟! فقلت لا ، قالت أصدقني الخبر ، فأعلمتها فضحكت وأنشدت :
وداري إذا نام سكانها تقيم الحدود بها العقرب
إذا رام ذو حاجة غفلة فإن عقاربها ترقب
ثم دعت جواريها وقالت : عزمت عليكن أن تقتلن عقربا هذه السنة
ومما يحكى عن شدة غيرة النساء أن رجلا كان مضطجعا إلى جنب امرأة، فخرج إلى الحجرة، فجامع جارية له، فاستنبهت المرأة فلم تره، فخرجت، فإذا هو على بطن الجارية، فرجعت، فأخذت سكينا، فخرج الرجل في الحال، ووجد زوجته السكين فقال لها: ما الخبر؟! فقالت ما الخبر؟! وقد وجدتك عند الجارية، فجئت بالسكين لأنتقم منكما!
قال الرجل: ما كنت! فأنت حالمة من شدة النعاس والنوم. فقالت: بلى! وقد نهى الإسلام أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب فاقرأ ما تيسر.
وقد كانت هذه المرأة أمية لا تميز بين القرآن وغيره، فأنشدها:
أتانا رسول الله يتلو كتابه كما لاح منشور من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
قالت: آمنت بالله وكذبت بصري. وقد انطلت عليها الحيلة. ومعنى يجافي جنبه عن فراشه: أي يتنحى عن فراشه ويقوم للصلاة في بطن الليل وهذه من صفات المؤمنين.
الغيرة المحمودة
قال الإمام ابن القيم: فمحب الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته واجلاله، وإن خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى، وان زعم أنه من المحبين. فكذب من ادعى محبة محبوب من الناس. وهو يرى غيره ينتهك حرمة محبوبه... ويستهين بحقه، ويستخف بأمره. وهو لا يغار لذلك . بل قلبه بارد، فكيف يصح لعبد يدعي محبة الله، ولا يغار لمحارمه إذا انتهكت. ولا لحقوقه إذا أضيعت. وأقل الأقسام أ، يغار له من نفسه وشيطانه! فيغار لمحبوبة من تفريطه في حقه، وارتكابه لمعصيته. وإذا ترحلت هذه الغيرة من اللب ترحلت منه المحبة، بل ترحل منه الدين! وأن بقيت فيه آثاره.
وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الحاملة على ذلك ، فأن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر. فأنه إنما يأتي بذلك غيرة منه لربه، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى علامة محبوبه الجهاد فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم).
من علامات الغيرة المحمودة
كره من يدخل بين المحب الصادق، وبين محبوبه ولهذا السر_ والله أعلم_ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم برد المار بين يدي المصلي حتى أمر بقتاله ، وأخبر أنه لو يدري ما عليه من الإثم لكان وقوفه أربعين خيرا من مروره بين يديه.
ولا يجد ألم المرور وشدته إلا قلب حاضر بين يدي محبوبه، مقبل عليه، وقد ارتفعت الأغيار بينه وبينه، فمرور المار بينه وبين ربه بمنزلة دخول البغيض بين المحب ومحبوبه، وهذا أمر، الحاكم فيه الذوق، فلا ينكره إلا من لم يذق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير الريبة.
ما أعظم توجيه هذا الحديث، فكم كانت الغيرة الجاهلية إذا صح هذا التعبير أو الغيرة في غير ريبة كما أطلق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سببا في شقاء الأسرة.
إن من واجب كل من الزوجين أن يكون عاقلا رزينا لا يجعل الشك والريبة أمام ناظريه وفي قلبه ، فيعكر حياته ويهدد كيان أسرته بالخراب نتيجة الظنون والوساوس الشيطانية وخلل في غريزة حب التملك .
إني أنصح الزوجين وخاصة إذا كانا متدينين حقا أن يدع كل منهما للآخر مجالا لمراقبة خالقه ومحاسبة ضميره ، فلا يعكر كل منهما سعادة الأسرة بالغيرة وخاصة إذا التزما حدود الشرع وتجنبا مشاهدة المواقف الغرامية الجنسية المثيرة وابتعدا عن الاختلاط بالرجال والنساء الآخرين، كما ابتعدت الزوجة عن التبرج الذي يدخل الشك والريب في نفس الزوج الواعي. وإنني أنبه بهذه المناسبة إلى أن الغيرة المتكررة في غير ريبة، وكثرة المضايقات على الزوج أو الزوجة قد يغري الطرف الآخر إذا كان ضعيف النفس فاقد الإيمان الى ارتكاب المحرمات فالحذر الحذر.
كتب أحدهم يقول: ينبغي أن تكون المرأة محامية عن زوجها تدافع عنه، لا موظف مخابرات تسأله دائما عند دخول البيت: أين كنت، ماذا فعلت، لماذا تأخرت، من حديث، ماذا كنت تقول .. تكلم بصراحة.
إلى غير ذلك من الأسئلة التي تجعل من الزواج جحيما لا يطاق.
وانشد بعضهم في الغيرة.
ما أحسن الغيرة في حينها وأقبح الغيرة في غير حين
من لم يزل متهما عرسه متبعا فيها لقول الظنون
يوشك أن يغريها بالذي يخاف أن تبرزها للعيون
حسبك من تحصينها وضعها منك إلى عرض صحيح ودين لا يطعن منك على ريبة فيتبع المقرون حبل القرين.
من عجائب الغيرة قول الشاعر :
إني أغار عليك من عينيك من بائعات الورد في خديك من فاحم الشعر الكثيف محوري كالليل مسدودلا حتى كتفيك عند انفراج السحر من شفتيك ، وقد نهى رسول الله e أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم ويطلب عثراتهم .
ونختم هذا الموضوع بكلمة نحلل فيها " الغيرة" ونميز بين المحمود منها والمذموم. الغيرة كسائر الأمراض النفسية تفتك بصاحبها، فيختل توازنه، ويضطرب حبل شخصيته وتضطرب حياته الوجدانية وينبري جسمه، وتنحط قواه العقلية، ويقل إنتاجه....
والغيرة كالشعور بالنقص، لا بأس بها، في الأحوال العادية، إذ أنها ضرب من الدفاع عن النفس ووازع طبيعي للمنافسة الشريفة ، والطموح وركوب متن السمو والأماني هذا هو الأصل ، بيد أنها تكون كسائر الصفات والطبائع والنزعات الحسنة قد تصبح وبالا على المتصف بها فتبطش به بطشا إذا ما أسرف فيها .
ومما يؤسف له أن معظم ما يسمونه الغيرة الزوجية التي كثيرا ما تقود أصحابها إلي مواطن التهلكة والتعاسة بل إلى الانتحار وارتكاب جريمة القتل والوقوف أمام حبل المشنقة كثيرا ما تكون هذه الغيرة لا أساس لها من الصحة .